في أول لقاء جمعني بنجلاء في المدرسة الثانوية صرخ صوت في داخلي بأن عليَّ وضع حدود بيننا..
كانت ملامح القوة والصلابة تظهر بوضوح على محياها وكانت صراحتها الفجة تحرج الكثيرات من صديقاتها عندما تشهق في وجه فتاة منهن مثلا قائلة بخوف:
أه ماذا فعلت بشعرك؟
وكان الحرج بالطبع نصيب من وجهت لها نجلاء كلماتها الصريحة، وربما دمعت عيناها وهي تشهد ردة الفعل العجيبة لتسريحة جديدة جاءت بها مبتهجة نحو المدرسة.
كانت لديها القدرة أيضاً على إكتشاف أي قدر ضئيل من المكياج الذي تشتهيه فتيات في المرحلة الثانوية، ولم تكن تتورع عن دخول معارك مع من تظنها قد جعلت على رموشها بعض -الماسكارا- أو قليلا من أحمر الشفاه أو أحمر الخدود، وكان منديلها الأبيض جاهزاً دائما لكشف الجرائم.
في ذلك الوقت وفي السنة النهائية من المرحلة الثانوية كنت قريبة من نجلاء ولكن الحدود التي قررتها كانت تبعد عني هجماتها المباشرة، وكانت تعلق دائما على شعري المصفف بعناية دائماً، وتكتفي بالغيبة وبتعليقات تطلقها بعيدا عني بين الحين والحين، ولكنها لم تكن لتجرؤ على الحديث المباشر معي، فقد كان وجهي العابس دوما في وجهها.. وتجاهلي لنكاتها.. وعدم إبتسامي لما تفتعله من مرح كافياً ليخبرها بأن هناك من يجب عليها إحترامه.
بعد تخرجنا من الثانوية بقيت أخبار نجلاء تصلني وكانت تجمع بيننا صداقات مشتركة وكنت ألتقيها بين الحين والحين عندما تكون المجموعة كلها حاضرة.
الذي علمته أنها تزوجت بعد تخرجها وأنها تعمل مع صديقتي المقربة في وظيفة حكومية، وأنها تسكن في غرفة واحدة عند أهل زوجها على سطح المنزل، وعندما زرتها مع صديقتي لم تكن تُظهر أي ألم لوجودها في تلك الغرفة الصغيرة المزدحمة، وكانت تحكي بثقة عن تفضيلها لهذا السكن عن وجودها مع أهل زوجها في بيت واحد وأنها بهذا قد وفرت على نفسها دفع أجرة منزل قد تعيق مشروعها في إمتلاك منزل، وقد قدرت لها هذه الهمة وقتها وأشفقت على نفسي لأنني كنت أعرف وقتها معنى أن تدفع إيجارا كبيراً.
بعد مغادرة الجميع بقيت معها لوحدي وصنعت وقتها لنا فنجانين من القهوة وحدثتني طويلا، وأخبرتني عن قصة الذهب المزيف الذي قدمه لها زوجها ليلة الزفاف وكيف إكتشفت الأمر بعد عدة ليال وحدثتني عن تلك الثورة التي أحدثتها في وجهه ووجه أهله، وأخبرتني أيضاً كيف لملمت شتات غضبها ولم تخبر أهلها بالأمر وكيف إستطاعت شراء قطع من الذهب الأصلي تشبه تلك المزيفة التي أهداها لها زوجها بعد فترة وجيزة.
أدهشتني نجلاء بقدرتها على الصبر وإحتمال الآلام وفي قدرتها أيضا على ضبط مشاعرها وكبح جماح الشامتين، فقد كان الأمر هاجسها الأول وفضلت أن تظهر بمظهر القوي والسعيد لتحرمهم فرصة السخرية والشماتة بها.
إنشغلت بزواجي وبتربية الأولاد وبالكتابة وغبت عن صديقاتي وعن نجلاء لسنين عديدة ثم علمت أنها قد اشترت منزلا جديداً جميلا فزرتها مباركة وسررت بكل ما عرضته علي من مقتنيات في منزلها الجميل بعد طول صبر وكد.
إزداد إنشغالي وطال غيابي عن الجميع وبقي الهاتف هو الوسيلة الوحيدة التي تربطني بعالمي القديم الجميل، وعلمت من بعضهن أن نجلاء اشترت سيارة وأسعدني أن أرى نجاحاً يسبقه تخطيط وهدف.
بعد سنة وعندما سنحت لي فرصة من فراغ أبديت رغبتي في زيارة نجلاء وهاتفت صديقتي المقربة فقالت:
- لقد رزقت نجلاء منذ مدة بمولودة صغيرة.
- كان الأمر غريبا فقد بدا سن نجلاء الذي قارب الأربعين من العمر كبيراً لتفكر في الإنجاب ولكنني خمنت أنها تريد أختاً لابنتها الوحيدة فقلت:
- رائع إذا ستكون مباركة مزدوجة
- لا لن تكون مباركة.
- لم؟
- المولودة مريضة ومشوهة.
- وكيف حال نجلاء.
- كعادتها تخبرنا أنها سعيدة وأنها لا تشعر بالحزن لأنها أنجبت تلك الطفلة، تعرفين طبعها، تقول بأنها ستكون بابها نحو الجنة.
الكاتب: عبير النحاس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.